مقال : منطقة الخليج ومستقبل تحالفاتها الاقتصادية بقلم / صالح بن أحمد البادي

اخبار الولاية

نطلق أسماءً كبرى على الخطط الكبرى والأحلام العظمى، لكن البشرية منذ خلقت وحتى قيام الساعة، تحلم وتنفذ؛ والحلم يسابق التنفيذ والتنفيذ يسابق الأحلام في دوران مستمر، ومنطقة الخليج كانت بدرجة عالية من الأهمية القصوى عالميا، تصدرت الأهمية عالميا منذ 1970 ولغاية العام 2013، وذلك مرده الأوحد بسبب أهمية النفط للعالم فهذا الذهب الأسود الذي شغل العالم قلباً وقالبًا فنمت أهمية ملاكه لسنين وصلت لأربعة عقود.
في السنوات الأخيره تنافس أكبر اقتصادين استهلاكا للنفط وبشكل مباشر وهما أمريكا والصين ومن يدور في فلكهما. كان الاقتصادان ينموان فيتنافسان في كل شيء وكان مورد النفط بأهمية قصوى لهما ولمن حولهما. كلنا يعلم ما في النفط من قوة فتعقد حوله وحول شأنه طاولات التفاوض ويدخل في كافة الأجندات بأنواعها ويقاس ويقرر حوله مستقبل الأمم ويتحدث حوله المشترون الدهاة بالدهاء والماكرون بمكرهم ولكن المنتجين كذلك لديهم بطاقات متعددة الألوان تستخدم بين أروقة المفاوضين وهندسة التعاقدات فكل يعمل من مصالحه المقدرة. وما كانت أوبك إلا نتاج تجميع التحالفات وهو جزءٌ من ذلك التهافت لبناء توازن وبطاقات تفاوض حول هذا المنتج قوي الأثر والتأثر عالميًا.
أمريكا قلبت الطاولة ولو بشكل له ما له وعليه ما عليه فقد انخفض حجم ونمو اقتصادها من جهة وانتجت ذهبها الأسود وصارت مصدرة له من جانب آخر وتراجع أثر قيادة العالم اقتصادياً فتدنت لديها أهمية النفط لتصبح درجة ٣ أو ٤ على افتراض أن درجة (١) تعني عالي الأهمية وبالتالي نظرت للخليح بنظرة مختلفة ضمن أطر عامة ثابتة. القارئ والمحلل بعمق يرى ذلك كالشمس الساطعة بنور النهار المعيش. والخليج بدأ يتوسع في الاعتماد على نفسه بشكل أكثر حيادية مركزا على مصالحه كأولوية مع ثبات المصالح الكبرى وبقائها استراتيجيًا لكن ضمن أهمية متوازنة مع مصالح الدول ومع بقاء أطر عامة متفق عليها في العلاقات الدولية لكن درجات الأهمية والأولويات تتغير وتتبدل بكل مرحلة زمنية وحسب ظروف ومصالح الفترات الزمنية المختلفة لذلك فليس هناك ثابت في علاقات الدول لكن هناك أطر عامة استراتيجية ذات أهداف محددة ويتم قياسها وتحديد مستقبل تلك الأهداف.
الصين مع انخفاض النمو الاقتصادي أضحى النفط الخليجي ونتيجة لتراجع أمريكا والغرب عن شرائه بالأحجام السابقة وتوافره في الأسواق العالمية أضحى ليس بذات الأهمية القصوى من حيث توافره ولا من حيث الاعتماد عليه لتوافر خيارات الطاقة الخضراء والسيارات الكهربائية ولا بالندرة فتحول لأهمية رقم ٢ أو ٣ كمية وسعرا واهتمامًا عالميًا.
لا أعلم على ماذا وقّعت الأقلام على الطاولات المستديرة أو المثلثة أو المربعة بين عمالقة العالم أثناء مفاوضاتهم في بكين أو نيويورك أو فيينا أو غيرها ولكنني أعلم أن الصدف لا تلعب دورًا في خطط الكبار ولا توضع القضايا الكبرى على هوامش الأجندات ولا تغلق الاجتماعات قبل البت فيها وتحديد مُستقبلها وتعظيم عوائدها وضبط سلسلة توريدها ومنابع إنتاجها.
تقدم النفط سعرًا خلال هذا العام لكن سعر ردات الفعل القادمة من توقعات مستقبلية وخروج على استحياء من أزمة كورونا لكنه سعر ليس مستداماً ولا يتماشي مع نمو موازنات المنطقة الحالي والقادم جهة الاستهلاك والإنفاق.
تحولت الدول في تسلسل الأهمية العالمي ولحد ما ليس لأحجامها الاقتصادية فقط ولكن كأثر اقتصادي خلال العامين الماضيين لكوفيد ١٩ فتقدمت دول إنتاج الأمصال بالأهمية كدول والأهمية كمنتج وبالتالي أعيد قياس أهمية العالم ولو لفترة محدودة للدول المنتجة للأمصال وأضحت الدول كلها متساوية إلا من استطاع إنتاج الأمصال أولا ثم من استطاع شراؤها وتأمينها لشعبه والمُقيمين ثم لمن استطاع التطعيم ونمو أعداد المحصنين والمحصنات لديه مواطنين ومقيمين ثم التاريخ الاقتصادي والمستقبل الاستراتيجي النقدي. هذا التسلسل الجديد يعطيك أهمية كبرى ومميزة. ويجعل مستقبل الأهمية كدول مختلفا عن ما كان عليه قبل كوفيد ١٩ والسبب كله مرده أنه ورغم أن الظن جله يقود لانتهاء أزمة كورونا قريبًا بتوفير كميات عالية من اللقاحات والسيطرة الإنسانية على المرض عبر اللقاحات إلا أن عنصر صناعة وإنتاج الأمصال سيدخل ضمن قوة الدول ومتانتها تفاوضيا وعالميا وسيحسب ضمن أسباب قوتها وجرأتها ومركزها مقارنة على دول العالم الأخرى.
لذلك قلت أهمية منطقة الخليج الاستراتيجية كمغذ للطاقة ومصدر لثلث استهلاك العالم. كما هدأ هدير التحديات الجيوسياسية حولنا من إيران والولايات المتحدة فأضحى التصادم محدوداً لأن الأولويات ما قبل كوفيد وخلال كوفيد وما بعد كوفيد ستكون مختلفة. لقد استطاعت دول أن تفرض حضورها وتراجعت دول أخرى. وبأي حال فإنّ تلك التوازنات تؤخذ بالحسبان بشكلها الحالي وكذلك المستقبل الذي قررت الذهاب باتجاهه.
أوروبا تراجعت أهميتها لأنَّ طرق التعامل مع كوفيد ١٩ كان لها ما لها وعليها ما عليها وأثر تدخلاتها كان محدودا ما قبل كوفيد وأثناء كوفيد ١٩-٢١ شاركها في ذلك التموضع لأكبر ٥ اقتصاديات فيما لو استثنينا العملاق الأحمر؛ الصين. ولعبت القوة الشرائية الخليجية ذات المصدر المعتمد على الذهب الأسود أهمية أقل بالمنطقة وبما أن دولنا استهلاكية تغذيها أسواق الإنتاح العالمي وتمثل قوة شرائية قليلة العدد لكنها تمثل قوة شرائية عالية الأثر لمتوسط أحجام الشراء للفرد. إلا أن السنوات منذ ٢٠١٤ وأثناء كوفيد وخلاله تحجمت تلك القوة في نسب نموها وأحجام أثرها.
ورغم أن القوة الشرائية ما بعد كوفيد ١٩ ستتغير سلوكيًا وإن بقت لكن قوتها كأحجام لن تعود كما كانت. فكل الرسوم والضرائب ونمو التضخم يصارع كله ضد محافظنا النقدية الفردية والمؤسسية ويجعلنا نعيد ترتيب الأولويات من حيث نشعر ومن حيث لا نشعر وبالتالي فإن قوتنا الشرائية السابقة وثقافاتنا الجديدة لن تعمل بذات الحجم وبذات النمو خصوصا على المدى المتوسط.
لقد قلَّ الاهتمام اللوجستي بالمنطقة كثيرا لأسباب كثيرة وأهمها أن المارد الأحمر جعل بعض أهم الخطوط اللوجستية خارج منطقة الخليج رغم مرور بعض الخطوط بداخل المنطقة وهو أمر وفر للعالم سرعة أكبر وسعرا أفضل بخيارات النقل البري والتي تقود العالم.
ما من شك أن الخليج جاد في صنع مكانة له بشكل مميز ولكن الأحجام هي هدف في حد ذاته وهي المؤثرة في التموضع اللوجستي عالميًا مع المعايير الأخرى الخاصة والمتعارف عليها.
كما ارتفعت مؤشرات التوازن في العلاقات على حساب القطب الواحد. كل ذلك أعطى المنطقة اهتمامًا مركزًا أقل وتركزت الاهتمامات بمناطق أخرى أكثر أهمية كأحجام تجارة وكأهمية لوجستية وكنمو وحجم أثر على الاقتصاد العالمي ودول ذات عمق اقتصادي وسياسي أكبر وأشمل واستراتيجي.
ولذلك على دول المنطقة بخليجنا العربي أن تعيد هيكلة صناعة الأهمية الاستراتيجية وترفع معايير أولويات تكاملها مع العالم وتحفز اقتصادياتها نحو حرية أكبر وتراهن أكثر على تعاونها وتكاملها وتفاعلها وتساهم في اتحاد اقتصادي متفاعل متكامل، وترفع منافسيها وشركاءها من حيث الأهمية والأثر وفق آخر معطيات العالم وأن تصيغ برامج شراكاتها وفق مصالح استراتيجية عادلة وأن تهب بالتعاون كخليج واحد هدفه علاقات تتوافق استراتيجيا مع قوانين وتشريعات العالم العادلة وأن تحفز اقتصادياتها لتنمو عبر شركاء وشراكات تقوم على كفاءتها الوطنية الفاعلة المجدة المتمسكة بأفضل ممارسات العالم، وعبر شركاء وطن من العالم النامي بجد وليس شركاء التغني بالتاريخ فقط كبعض دول أوروبا فقد ثبت للعالم أجمع أنَّ الشرق الأقصى يقدم حلولاً تتفق أكثر مع شبابنا ومع التحفيز المبتكر ومع الحلول المتكاملة. هذا التعاون الاقتصادي رغم إمكانياته ورغم تحدياته ينشر فرصاً كثيرة وكبيرة تشترط أن يكون الجميع بمستوى الطموح وبمستوى الإبداع في التنفيذ والعدالة في الفرص والمشاركة في حصاد الفرص العادلة بقلب واسع وعقل مركز وشراكة عادلة.
وكما أشرت سلفًا فلقد رحلت الأهمية الكبرى للنفط من المرتبة ١ من حيث الأهمية إلى المرتبة ٢ أو ٣ من حيث الأهمية في تقديري وتقدير الكثيرين وما لم نتحرك بأسرع ما يمكن وبفكر محفز وفاعل ومجد في شأن القوة الاقتصادية والأثر العالمي ستبقى حظوظنا محدودة.
أما الأهمية الاستراتيجية فلا ترتبط بوجود بحر حولك وحواليك فكوكب الأرض 70% منه مياه، لكنها مرتبطة بأحجام الجذب لديك من أحجام التجارة والصناعة والخدمات المبحرة من وإلى شواطئك وموانئك بل ومع الأهمية الكبرى للتكنولوجيا والثورات الصناعية المتعددة وكل ذلك يوفره ويصنعه ويقوده الشرق الأقصى صناعة وأحجاما وأثرا واقتصادا. إنك تستطيع كخليج وكموقع أن تحول المنطقة جلها لعناصر إنتاجية وتصنيعية لمنتجات مرتبطة بالثورات الصناعية فتبحر السفن الحاملة للمنتجات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا مكونة نموا مميزا في الأثر والتأثير بالعالم كله وحلولا اقتصادية منافسة وتكتلات اقتصادية معروفة وأسعارا تنافسية وعدوا لوجستي محبذا للعالم وجودة يطمح إليها العالم وهذا هو الطموح الصحيح.
وأثبت الشرق- ولو مرحلياً- أنه مصدر موثوق وذو قدرات عالية، إنني لا أقصد هنا فقط الشرق الأقصى وحده رغم أنني أقصده بلا شك، لكنني أقصد كذلك الشرق الأدنى والذي ينبئك أنه شريك للنمو وشريك لمستقبل يتقبل فيه الآخر شريكا حقيقيا حاليا لكن ذلك ليس شرطًا بذات السهولة بالمستقبل. إننا نؤيد أن ندخل الاقتصاديات الناشئة الجديدة حولنا منذ الآن ليتشكل تحالفات استراتيجية صحيحة وأعلى تنافسية لصناعة موطئ قدم صحيح حتى خارج منطقة الخليج.
فليذهب الخليج كتلة اقتصادية باتجاه المستقبل وليتحالف مع العالم بموارده المتعددة وقوته اللوجستية ورهانه على كفاءات منطقة الخليج وقدرات الخليج الرائعة والمرحب بها عالميًا